التاريخ : 2025-01-30
مدة القراءة : 3 دقائق
للشعر مكانة خاصة، فهو قلب الجمال، وغذاء المعنى، وبلسم الروح. الشعر لا يخاطب فينا إلا الشعور، ينقلنا من حالة إلى حالة، يصفنا بصدق، يتحدث عنا، يتحدث منا، يبدأ ولا ينتهي، يتسرب إلى دواخلنا، يحيينا، يرفع معايير ذائقتنا. الشعر هو متحف الحياة، فيه التاريخ والآثار والوثائق والرحلات والمشاعر، الشعر هو أن نعبّر عن أنفسنا بلغة موسيقية تطرب من يسمعها ويقولها، الشعر طريقة مبتكرة للعلاج، والشاعر هو الطبيب. يقول ستيفان مالارميه: «إن مهمة الشعر هي تنظيف واقعنا المتخثر بالكلمات بخلق مساحات من الصمت حول الأشياء». ويقول نوفاليس: «الشعر يداوي الجراح التي يحدثها العقل».
يقول ابن خلدون: "الشعر هو الكلام المبني على الاستعارة والأوصاف، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن والروي، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله وبعده، الجاري على أساليب العرب المخصوصة به". أما الشاعر، فهو من يجعل الخيال حبرا له ليكتب ويرسم طريقا مختلفا للشعور. الشاعر يعرّف نفسه في القصيدة، ويعرّف من يشبهه كذلك، الشاعر هو من حيزت له أمارة الكلام - كما ذكر الخليل - فهو يتصرف فيه ويصرّفه كيف يشاء، يموسق الكلمات، يضحكها، يبكيها، له الحرية الكاملة، ولنا القصيدة الخالدة.
الشعر في مختلف الأمم نشأ نشأة غنائية، فحين وجد؛ وجدت معه الأوزان والموسيقا، لأن الشاعر لا يكتب كلامه بلغة عادية، وهذا الأمر ليس حكرا على الشعر العربي دون غيره، فالموسيقا صاحبت الشعر اليوناني واللاتيني، والشاعر الإغريقي الشهير هوميروس كان يلحّن أشعاره ويغنيها، وكذلك كان الأمر مع الأعشى، الشاعر الجاهلي المعروف صاحب إحدى المعلقات. ويؤكد حسان بن ثابت ارتباط الشعر بالغناء في قوله: تَغَنَّ بالشِّعرِ إمّا كُنتَ قائِلَه إنَّ الغناء لهذا الشّعر مِضمارُ ويقول ابن طباطا: "للشعر الموزون إيقاع يَطربُ الفَهمُ لصوابه"، لذلك نستطيع القول بأن الموسيقا هي الفارق بين الشعر والنثر. يقول سومرست موم: "الشعر هو تاج الأدب. إنه الغاية والهدف. إنه أرقى أشكال النشاط العقلي. إنه بلوغ الجمال والدقة. وليس بوسع كاتب النثر إلا أن يتنحى حين يمر الشاعر"
في بدايات الشعر، كان القصائد يجري على ألسنة العرب، فينشدوه موزونا صحيحا لا تشوبه شائبة دون علم أو دراية، ولم يعرف العرب علم العروض بوصفه علما مستقلا متكاملا ببحوره وأوزانه إلا على يدي الخليل بن أحمد الفراهيدي، هذا العالم الفذ الذي عرف بذائقته العالية وأذنه الموسيقية. بعد أن استمع لشعر لا يسير على الإيقاع والوزن العربي الذي تعودت عليه مسامع العرب؛ قرر أن يضبط الأوزان الشعرية لمعرفة المتهالك من الشعر، كان يذهب إلى السوق ليستمع إلى طرْقات صانعي النحاس الذي يطرقونه بشكل منتظم، ويتتبع هذه الطرقات ليوحد بينها وبين إيقاعات اللغة، وبعد ذلك يذهب إلى بيته، ويبدأ بعملية حصر الشعر العربي منذ العصر الجاهلي، ومن هنا نشأ علم العروض، هذا العلم الذي موسق الشعر وجعله نوتة العرب الموسيقية فعلا.
في الأساطير اليونانية، يقول أوسينوس لبروميثوس: "الكلمات هي طبيب العقول المريضة"، وفي القرن الأول الميلادي وصف الطبيب الروماني سورانوس الشعر والدراما لمعالجة مرضاه. إن كلمات القصيدة تعد محاولة ناجحة للهروب من أزمة ما؛ فالقصيدة ثنائية التأثير، تعالج الشاعر نفسه في البداية ثم تداوي المستمع بنفس الفعالية. إن العلاج بالشِّعر أحد علاجات الفنون الإبداعية التي اعتمدتها الرابطة الوطنية للجمعيات العلاجية للفنون الإبداعية، ويُستخدم مع الأطفال والمراهقين، وكبار السن. وفي القرن الثامن عشر، قام الدكتور بنجامين روش، المعروف بلقب "أبو الطب النفسي الأمريكي"، باستخدام الموسيقى والأدب كعلاجات تكميلية لمرضاه. لم يقتصر دوره على العلاج فحسب، بل شجع مرضاه على نشر كتاباتهم الخاصة؛ مما ساهم في تعزيز الجانب الإبداعي والعلاجي في آن واحد.